فصل: ذكر خروج أبي خزر بإفريقية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خروج أبي خزر بإفريقية:

في هذه السنة خرج بإفريقية أبو خزر الزناتي، واجتمع إليه جموع عظيمة من البربر والنكار، فخرج المعز إليه بنفسه يريد قتاله، حتى بلغ مدينة باغاية، وكان أبو خزر قريباً منها، وهو يقاتل نائب المعز عليها، فلما سمع أبو خزر بقرب المعز تفرقت عنه جموعه، وسار المعز في طلبه، فسلك الأوعار، فعاد المعز وأمر أبا الفتوح يوسف بلكين بن زيري بالمسير في طلبه أين سلك، فسار في أثره حتى خفي عليه خبره، ووصل المعز إلى مستقره بالمنصورية.
فلما كان ربيع الآخر من سنة تسع وخمسين وصل أبو خزر الخارجي إلى المعز مستأمناً، ويطلب الدخول في طاعته، فقبل منه المعز ذلك وفرح به، وأجرى عليه رزقاً كثيراً.
ووصله، عقيب هذه الحال، كتب جوهر بإقامة الدعوة له في مصر والشام، ويدعوه إلى المسير إليه، ففرح المعز فرحاً شديداً أظهره للناس كافةً ومدحه الشعراء، فممن ذكر ذلك محمد بن هانئ الأندلسي، فقال:
يقول بنو العبّاس: قد فتحت مصر، ** فقل لبني العبّاس: قد قضي الأمر

ذكر قصد أبي البركات بن حمدان ميّافارقين وانهزامه.
في هذه السنة، في ذي القعدة، سار أبو البركات بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكره إلى ميافارقين، فأغلقت زوجة سيف الدولة أبواب البلد في وجهه، منعته من دخوله، فأرسل إليها يقول: إنني ما قصدت إلا الغزاة؛ ويطلب منها ما يستعين به، فاستقر بينهما أن تحمل إليه مائتي ألف درهم، وتسلم إليه قرايا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين.
ثم ظهر لها أنه يعمل سراً في دخول البلد، فأرسلت إلى من معه من غلمانه سيف الدولة تقول لهم: ما من حق مولاكم أ، تفعلوا بحرمه وأولاده هذا؛ فنكلوا عن القتال والقصد لها، ثم جمعت رجالة وكبست أبا البركات ليلاً، فانهزم ونهب سواده وعسكره، وقتل جماعة من أصحابه وغلمانه، فراسلها: إنني لم أقصد لسوء؛ فردت رداً جميلاً، وأعادت إليه بعض ما نهب منه، وحملت إليه مائة ألف درهم، وأطلقت الأسرى، فعاد عنها.
وكان ابنها أبو المعالي بن سيف الدولة على حلب يقاتل قرعويه غلام أبيه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، عاشر المحرم، عمل أهل بغداد ما قد صار لهم عادة من إغلاق الأسواق، وتعطيل المعاش، وإظهار النوح والمأتم، بسبب الحسين بن علي، رضوان الله عليهما.
وفيها أرسل القرامطة رسلاً إلى بني نمير وغيرهم من العرب يدعونهم إلى طاعتهم، فأجابوا إلى ذلك، وأخذت عليهم الأيمان بالطاعة، وأرسل أبو تغلب ابن حمدان إلى القرامطة بهجر هدايا جميلة خمسون ألف درهم.
وفيها طلب سابور بن أبي طاهر القرمطي من أعمامه أن يسلموا الأمر إليه والجيش، وذكر أن أباه عهد إليه بذلك، فحبسوه في داره، ووكلوا به، ثم أخرج ميتاً في نصف رمضان، فدفن ومنع أهله من البكاء عليه، ثم أذن لهم بعد أسبوع أن يعملوا ما يريدون.
وفيها، ليلة الخميس رابع عشر رجب، انخسف القمر جميعه، وغاب منخسفاً.
وفيها، في شعبان، وقعت حرب بين أبي عبدالله بن الداعي العلوي وبين علوي آخر يعرف بأميرك، وهو أبو جعفر الثائر في الله، قتل فيها خلق كثير من الديلم والجيل، وأسر أبو عبدالله بن الداعي، وسجن في قلعة، ثم أطلق في المحرم سنة تسع وخمسين وعاد إلى رئاسته، وصار أبو جعفر صاحبه جيشه.
وفيها قبض بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين، وعلى جميع أصحابه، وقبض أموالهم وأملاكهم، واستوزر أبا الفرج محمد بن العباس، ثم عزل أبا الفرج وأعاد أبا الفضل.
وفيها اشتد الغلاء بالعراق، واضطرب الناس، فسعر السلطان الطعام، فاشتد البلاء، فدعته الضرورة إلى إزالة التسعير، فسهل الأمر، وخرج الناس من العراق إلى الموصل والشام وخراسان من الغلاء.
وفيها نفي شيرزاد، وكان قد غلب على أمر بختيار، وصار يحكم على الوزير والجند وغيرهم، فأوحش الأجناد، وعزم الأتراك على قتله، فمنعهم سبكتكين وقال لهم: خوفوه ليهرب؛ فهرب من بغداد، وعهد إلى بختيار ليحفظ ماله وملكه، فلما سار عن بغداد قبض بختيار أمواله وأملاكه ودوره وكان هذا مما يعاب به بختيار.
ثم إن شيرزاد سار إلى ركن الدولة ليصلح أمره مع بختيار، فتوفي بالري عند وصوله إليها.
وفيها توفي عبيد الله بن أحمد بن محمد أبو الفتح النحوي، المعروف بجخجخ.
وفيها مات عيسى الطبيب الذي كان طبيب القاهر بالله، والحاكم في دولته، وكان قد عمي قبل موته بسنتين، وكان مولده سنة إحدى وسبعين ومائتين. ثم دخلت:

.سنة تسع وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية:

في هذه السنة، في المحرم، ملك الروم مدينة إنطاكية.
وسبب ذلك أنهم حصروا حصناً بالقرب من إنطاكية يقال له حصن لوقا، وأنهم وافقوا أهله، وهم نصارى، على أن يرتحلوا منه إلى إنطاكية، ويظهروا أنهم إنما انتقلوا منه خوفاً من الروم، فإذا صاروا بأنطاكية أعانوهم على فتحها، وانصرف الروم عنهم بعد موافقتهم على ذلك، وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية بالقرب من الجبل الذي بها.
فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخي نقفور الملك، وكانوا نحو أربعين ألف رجل، فأحاطوا بسور إنطاكية، وصعدوا الجبل إلى الناحية التي بها أهل حصن لوقا، فلما رآهم أهل البلد قد ملكوا تلك الناحية طرحوا أنفسهم من السور، وملك الروم البلد، ووضعوا في أهله السيف، ثم أخرجوا المشايخ، والعجائز، والأطفال من البلد، وقالوا لهم: اذهبوا حيث شئتم؛ فأخذوا الشباب من الرجال، والنساء، والصبيان، والصبايا، فحملوهم إلى بلاد الروم سبياً، وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان، وكان حصرهم له في ذي الحجة.

.ذكر ملك الروم مدينة حلب وعودهم عنها:

لما ملك الروم إنطاكية أنفذوا جيشاً كثيفاً إلى حلب، وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصراً لها، وبها قرعويه السيفي متغلباً عليها. فلما سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عنهم، وحصروا البلد، وفيه قرعويه وأهل البلد قد تحصنوا بالقلعة، فملك الروم المدينة، وحصروا القلعة، فخرج إليهم جماعة من أهل حلب، وتوسطوا بينهم وبين قرعويه، وترددت الرسل، فاستقر الأمر بينهم على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعويه إليهم، وأن يكون للروم إذا أرادوا الغزاة أن لا يمكن قرعويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها.
وكان مع حلب حماة، وحمص، وكفر طاب، والمعرة، وأفامية، وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرايا، وسلموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب وتسلمها المسلمون.

.ذكر ملك الروم ملازكرد:

وفيها أرسل ملك الروم جيشاً إلى ملازكرد من أعمال أرمينية، فحصروها، وضيقوا على من بها من المسلمين، وملكوها عنوة وقهراً، وعظمت شوكتهم، وخافهم المسلمون في أقطار البلاد، وصار كلها سائبة لا تمتنع عليهم يقصدون أيها شاؤوا.

.ذكر مسير ابن العميد إلى حسنويه:

وفي هذه السنة جهز ركن الدولة وزيره أبا الفضل بن العميد في جيش كثيف، وسيرهم إلى بلد حسنويه.
وكان سبب ذلك أن حسنويه بن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم، فكان ركن الدولة يراعيه لذلك، ويغضي على ما يبدو منه؛ وكان يتعرض إلى القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك ركن الدولة، فسكت عنه.
فلما كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف أدى إلى أن قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثم إنه جمع من الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرقه في نواحي أصحاب سهلان وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً، فاشتد عليهم الأمر حتى كادوا يهلكون، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمنهم، فأخذهم عن آخرهم.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذ أمر ابن العميد بالمسير إليه، فتجهز وسار في المحرم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شاباً مرحاً، قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يظهر منه ما يغضب بسببه والده، وازدادت علته، وكان به نقرس وغيره من الأمراض. فلما وصل إلى همذان توفي بها، وقام ولده مقامه، فصالح حسنويه على مالٍ أخذه منه، وعاد إلى الري إلى خدمة ركن الدولة.
وكان والده يقول عند موته: ما قتلني إلا ولدي، وما أخاف على بيت العميد أن يخرب ويهلكوا إلا منه. فكان على ما ظن.
وكان أبو الفضل بن العميد من محاسن الدنيا قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي أتى فيها بكل بديع.
وكان عالماً في عدة فنون منها الأدب، فإنه كان من العلماء به، ومنها حفظ أشعار العرب، فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله؛ ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهراً فيها مع سلامة اعتقاد، إلى غير ذلك من الفضائل، ومع حسن خلق، ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه، وشجاعة تامة، ومعرفة بأمور الحرب والمحاصرات، وبه تخرج عضد الدولة، ومنه تعلم سياسة الملك، ومحبة العلم والعلماء، وكان عمر ابن العميد قد زاد على ستين سنة يسيراً، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة.

.ذكر قتل تقفور ملك الروم:

في هذه السنة قتل تقفور ملك الروم، ولم يكن من أهل بيت المملكة، وإنما كان دمستقاً، والدمستق عندهم الذي كان يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج القسطنطينية، وأكثرها اليوم بيد أولاد تلج أرسلان، وكان كل من يليها يلقب بالدمستق، وكان تقفور هذا شديداً على المسلمين، وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة فعظم شأنه عند الروم، وهو أيضاً الذي فتح طرسوس، والمصيصة، وأذنة، وعين زربة، وغيرها.
ولم يكن نصراني الأصل، وإنما هو من ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاس تنصر، وكان ابنه هذا شهماً، شجاعاً، حسن التدبير لما يتولاه. فلما عظم أمره وقوي شأنه قتل الملك الذي كان قبله، وملك الروم بعده. وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلما ملك تزوج امرأة الملك المقتول على كره منها، وكان لها من الملك المقتول ابنان، وجعل تقفور همته قصد بلاد الإسلام والاستيلاء عليها، وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض، فدوخ البلاد، وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه، فيضعف البلاد فيملكها، وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبى، وأسر ما يخرج عن الحصر، وهابه المسلمون هيبة عظيمة، ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام، ومصر، والجزيرة وديار بكر لخلوا الجميع من مانع.
فلما استفحل أمره أتاه أمر الله من حيث لم يحتسب، وذلك أنه عزم على أن يخصي ابني الملك المقتول لينقطع نسلهما، ولا يعارض أحد أولاده في الملك، فلما علمت أمهما ذلك قلقت منه، واحتالت على قتله، فأرسلت إلى ابن الشمشقيق، وهو الدمستق حينئذ، ووافقته على أن يصير إليها في زي النساء ومعه جماعة، وقالت لزوجها إن نسوةً من أهلها قد زاروها، فلما صار إليها هو ومن معه جعلتهم في بيعة تتصل بدار الملك، وكان ابن الشمشقيق شديد الخوف منه لعظم هيبته، فاستجاب للمرأة إلى ما دعته إليه، فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة نام تقفور، فقتل منهم نيف وسبعون رجلاً، وأجلس في الملك الأكبر من ولدي الملك المقتول، وصار المدبر له ابن الشمشقيق، ويقال إن تقفور ما بات قط إلا بسلاح إلا تلك الليلة لما يريده الله تعالى من قتله وفناء أجله.

.ذكر ملك أبي تغلب مدينة حران:

في هذه السنة، في الثاني والعشرين من جمادى الأولى، سار أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان إلى حران، فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها، وامتنعوا منه، فنازلهم وحصرهم، فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال، وكان الغلاء في العسكر كثيراً، فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة، فخرج إليه نفران من أعيان أهلها ليلاً وصالحاه، وأخذ الأمان لأهل البلد وعادا.
فلما أصبحا أعلما أهل حران ما فعلاه، فاضطربوا، وحملوا السلاح وأرادوا قتلهما، فسكنهم بعض أهلها، فسكنوا، واتفقوا على إتمام الصلح، وخرجوا جميعهم إلى أبي تغلب، وفتحوا أبواب البلد ودخله أبو تغلب وإخوته وجماعة من أصحابه، وصلوا به الجمعة، وخرجوا إلى معسكرهم، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي لأنه طلبه أهله لحسن سيرته، وكان إليه أيضاً عمل الرقة، وهو من أكابر أصحاب بني حمدان، وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حران، وسبب سرعة عوده أن بني نمير عاثوا في بلد الموصل، وقتلوا العامل ببرقعيد، فعاد إليهم ليكفهم.

.ذكر قتل سليمان بن أبي علي بن إلياس:

في هذه السنة قتل سليمان بن أبي علي بن إلياس الذي كان والده صاحب كرمان.
وسبب ذلك أنه ذكر للأمير منصور بن نوح صاحب خراسان أن أهل كرمان من القفص والبلوص معه وفي طاعته، وأطعمه في كرمان، فسير معه عسكراً إليهما، فلما وصل إليها وافقه القفص والبلوص وغيرهما من الأمم المفارقة لطاعة عضد الدولة، فاستفحل أمره، وعظم جمعه، فلقيه كوركير ابن جستان، خليفة عضد الدولة بكرمان، وحاربه، فقتل سليمان وابنا أخيه إليسع، وهما بكر والحسين، وعدد كثير من القواد والخراسانية، وحملت رؤوسهم إلى عضد الدولة بشيراز، فسيرها إلى أبيه ركن الدولة، فأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى.

.ذكر الفتنة بصقلية:

وفي هذه السنة استعمل المعز لدين الله الخليفة العلوي، على جزيرة صقلية، يعيش مولى الحسن بن علي بن أبي الحسين، فجمع القبائل في دار الصناعة، فوقع الشر بين موالي كتامة والقبائل، فاقتتلوا، فقتل من موالي كتامة كثير، وقتل من الموالي بناحية سرقوسة جماعة.
وازداد الشر بينهم، وتمكنت العدواة، وسعى يعيش في الصلح، فلم يوافقوه، وتطاول أهل الشر من كل ناحية، ونهبوا وأفسدوا، واستطالوا على أهل المراعي، واستطالوا على أهل القلاع المستأمنة، فبلغ الخبر إلى المعز، فعزل يعيش، واستعمل أبا القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين نيابة عن أخيه أحمد، فسار إليها، فلما وصل فرح به الناس، وزال الشر من بينهم، واتفقوا على طاعته.

.ذكر حصر عمران بن شاهين:

في هذه السنة، في شوال، انحدر بختيار إلى البطيحة لمحاصرة عمران بن شاهين، فأقام بواسط يتصيد شهراً، ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة، وطفوف البطيحة، وبنى أمره على أن يسد أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة، ويردها إلى دجلة والفاروث، وربع طير، فبنى المسنيات التي يمكن السلوك عليها إلى العراق، فطالت الأيام، وزادت دجلة فخرجت ما عملوه.
وانتقل عمران إلى معقل آخر من معاقل البطيحة، ونقل كل ماله إليه، فلما نقصت المياه، واستقامت الطرق، وجدوا مكان عمران بن شاهين فارغاً، فطالت الأيام، وضجر الناس من المقام، وكرهوا تلك الأرض من الحر، والبق والضفادع، وانقطاع المواد التي ألفوها، وشغب الجند على الوزير، وشتموه، وأبوا أن يقيموا، فاضطر بختيار إلى مصالحة عمران على مال يأخذه منه.
وكان عمران قد خافه في الأول، وبذل له خمسة آلاف ألف درهم، فلما رأى اضطراب أمر بختيار بذل ألفي ألف درهم في نجوم، ولم يسلم إليهم رهائن، ولا حلف لهم على تأدية المال، ولما رحل العسكر تخطف عمران أطراف الناس فغنم، وفسد عسكر بختيار، وزالت عنهم الطاعة والهيبة، ووصل بختيار إلى بغداد في رجب سنة إحدى وستين وثلاثمائة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، اصطلح قرعويه، غلام سيف الدولة ابن حمدان، وأبو المعالي بن سيف الدولة، وخطب لأبي المعالي بحلب، وكان بحمص، وخطب هو وقرعويه في أعمالهما للمعز لدين الله العلوي، صاحب المغرب ومصر.
وفيها، في رمضان، وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء، فاحترق جماعة رجال ونساء، وأما الرحال وغيرها فكثير، ووقع الحريق أيضاً في أربعة مواضع من الجانب الغربي فيها أيضاً.
وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع لله وللقرامطة الهجريين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي، وخطب أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع لله.
وفيها مات عبيد بن عمر بن أحمد أبو القاسم العبسي المقرئ الشافعي بقرطبة، وله تصانيف كثيرة، وكان مولده ببغداد سنة خمس وتسعين ومائتين؛ وأبو بكر محمد بن داود الدينوري الصوفي، المعروف بالرقي، وهو من مشاهير مشايخهم، وقيل مات سنة اثنتين وستين.
وفيها توفي القاضي أبو العلاء محارب بن محمد بن محارب الفقيه الشافعي في جمادى الآخرة، وكان عالماً بالفقه والكلام. ثم دخلت:

.سنة ستين وثلاثمائة:

.ذكر عصيان أهل كرمان على عضد الدولة:

لما ملك عضد الدولة كرمان، كما ذكرناه، اجتمع القفص والبلوص، وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده، على كلمة واحدة في الخلاف، وتحالفوا على الثبات والاجتهاد، فضم عضد الدولة إلى كوركير بن جستان عابد ابن علي فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر، فالتقوا عاشر صفر، فاقتتلوا، وصبر الفريقان ثم انهزم القفص ومن معهم، فقتل منهم خمسة آلاف من شجعانهم ووجوههم، وقتل ابنان لأبي سعيد.
ثم سار عابد بن علي يقص آثارهم ليستأصلهم، فأوقع بهم عدة وقائع، وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرموز فملكها، واستولى على بلاد التيز ومكران، وأسر ألفي أسير، وطلب الباقون الأمان، وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم، على أن يدخلوا في السلم، وينزعوا شعار الحرب، ويقيموا حدود الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم.
ثم سار عابد إلى طوائف أخر يعرفون بالحرومية والحاسكية يخيفون السبيل في البحر والبر، وكانوا قد أعانوا سليمان بن أبي علي بن إلياس، وقد تقدم ذكرهم، فأوقع بهم، وقتل كثيراً منهم، وأنفذهم إلى عضد الدولة، فاستقامت تلك الأرض مدة من الزمان.
ثم لم يلبث البلوص أن عادوا إلى ما كانوا عليه من سفك الدم وقطع الطريق، فلما فعلوا ذلك تجهز عضد الدولة وسار إلى كرمان في ذي القعدة، فلما وصل إلى السيرجان رأى فسادهم وما فعلوه من قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان، فجرد عابد بن علي في عسكر كثيف، وأمره باتباعهم، فلما أحسوا به وأوغلوا في الهرب إلى مضايق ظنوا أن العسكر لا يتوغلها، فأقاموا آمنين.
فسار في آثارهم، فلم يشعروا إلا وقد أطل عليهم، فلم يمكنهم الهرب، فصبروا يومهم، وهو تاسع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ثم انهزموا آخر النهار، وقتل أكثر رجالهم المقاتلة، وسبى الذراري والنساء، وبقي القليل، وطلبوا الأمان فأجيبوا إليه، ونقلوا عن تلك الجبال، وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة والزراعين، حتى طبقوا تلك الأرض بالعمل وتتبع عابد تلك الطوائف براً وبحراً حتى أتى عليهم وبدد شملهم.

.ذكر ملك القرامطة دمشق:

في هذه السنة، في ذي القعدة، وصل القرامطة إلى دمشق فملكوها، وقتلوا جعفر بن فلاح.
وسبب ذلك أنهم لما بلغهم استيلاء جعفر بن فلاح على الشام أهمهم وأزعجهم وقلقوا لأنه قد تقرر بينهم وبين ابن طغج أن يحمل إليهم كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملها جعفر علموا أن المال يفوتهم، فعزموا على قصد الشام، وصاحبهم حينئذ الحسين بن أحمد بن بهرام القرمطي، فأرسل إلى عز الدولة بختيار يطلب منه المساعدة بالسلاح والمال، فأجابه إلى ذلك، واستقر الحال أنهم إذا وصلوا إلى الكوفة سائرين إلى الشام حمل الذي استقر، فلما وصلوا إلى الكوفة أوصل إليهم ذلك، وساروا إلى دمشق.
وبلغ خبرهم إلى جعفر بن فلاح، فاستهان بهم ولم يحترز منهم، فلم يشعر بهم حتى كبسوه بظاهر دمشق وقتلوه وأخذوا ماله وسلاحه ودوابه، وملكوا دمشق، وأمنوا أهلها، وساروا إلى الرملة، واستولوا على جميع ما بينهما.
فلما سمع من بها من المغاربة خبرهم ساروا عنها إلى يافا فتحصنوا بها، وملك القرامطة الرملة، وساروا إلى مصر، وتركوا على يافا من يحصرها، فلما وصلوا إلى مصر اجتمع معهم خلق كثير من العرب والجند والإخشيدية والكافورية، فاجتمعوا بعين شمس عند مصر، واجتمع عساكر جوهر وخرجوا إليهم، فاقتتلوا غير مرة، الظفر في جميع تلك الأيام للقرامطة، وحصروا المغاربة حصراً شديداً، ثم إن المغاربة خرجوا في بعض الأيام من مصر، وحملوا على ميمنة القرامطة، فانهزم من بها من العرب وغيرهم، وقصدوا سواد القرامطة فنهبوه، فاضطروا إلى الرحيل، فعادوا إلى الشام، فنزلوا الرملة.
ثم حصروا يافا حصراً شديداً، وضيقوا على من بها، فسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها، فأخذوا مراكب جوهر، ولم ينج منها غير مركبين، فغنمهما مراكب الروم.
وللحسين بن بهرام مقدم القرامطة شعر، فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله:
زعمت رجال الغرب أنّي هبتها ** فدمي إذاً ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ** يروي ثراك فلا سقاني النّيل